سر مصري عمره7ألاف عام
صفحة 1 من اصل 1
سر مصري عمره7ألاف عام
العشرات من المصريين قبل أيام في حادث غرق سفينة في النيل. وكثرة مثل هذه الحوادث في مصر وعدم محاسبة الجناة تستحضر قولاً لأبي الطيبمات المتنبي حين هجا كافور الإخشيدي يختزل الحالة: نامت نواطير مصر عن ثعالبها!
لكن السياق الذي قال فيه الشاعر قصيدته يقلب نظام المحاسبة رأساً على عقب, إذ كان يرى أهل مصر كحراس غافلين عن واجب الحراسة ضد حاكم ثعلب مثل كافور. أهي ديمقراطية سابقة لزمنها بألف عام؟. إذا نحن يمّمنا وجهتنا شمالاً نحو أمريكا وأوروبا سنلاحظ أن أي تغير على الاقتصاد مهما كان طفيفاً يثير الكثير من القلق. فإذا ارتفعت الفائدة واحد بالمائة على سبيل المثال بادر المحللون الاقتصاديون إلى قرع أجراس الإنذار عالياً خوفاً من خطر الكساد ويلحقهم كتاب السياسة منذرين بخطر الأزمة الاجتماعية المرتقبة على فرص الحزب الحاكم في الانتخابات التالية. في لبنان وبرغم الربيع الديمقراطي، هناك شتاء اجتماعي كئيب يعصف بأغلب الناس, فهم يجأرون بالشكوى من التدهور الاقتصادي الذي تعيشه البلاد ومن جوع تعاني منه الطبقات الاجتماعية الفقيرة، ومن ضيق عيش عند الطبقات الوسطى يدفع أبناءها وبناتها للهجرة. مع ذلك فهناك فرص عمل كثيرة في لبنان, لكن تدني أجورها يجعل اللبنانيين يتركونها لضيوفهم من سري لانكا وسوريا ومصر. من مصر نفسها التي تشكك في صدقية هستيريا الأمريكيين والأوروبيين تجاه التقلبات الطفيفة في اقتصادهم… وهي تعطي الدروس للبنانيين وكل العرب في كيفية التعامل مع سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. المصريون في غالبيتهم الساحقة -فلاحون وأهل مدن- يعيشون بؤساً خالصاً الآن ومنذ أزمنة بعيدة، ربما منذ آلاف السنين. أجدادهم وآباؤهم وصولاً إلى الجيل الراهن كانوا يموتون بالآلاف في بناء مقابر ملوكهم، في حروب عبثية، في أوبئة لا حصر لها، في سجون طغاتهم، في قطارات تحترق وسفن تغرق ومبان تنهار على أهلها لأن مواد بنائها مغشوشة. المصريون يموتون بسهولة ويعانون باستمرار حتى أمست المعاناة شيئاً عادياً. برغم ذلك كله هم يستقبلون كل يوم بفخر واعتزاز غير معقولين: “نحنا اللي خرمنا التعريفة ودهنّا الهواء دوكو”.
لكن السياق الذي قال فيه الشاعر قصيدته يقلب نظام المحاسبة رأساً على عقب, إذ كان يرى أهل مصر كحراس غافلين عن واجب الحراسة ضد حاكم ثعلب مثل كافور. أهي ديمقراطية سابقة لزمنها بألف عام؟. إذا نحن يمّمنا وجهتنا شمالاً نحو أمريكا وأوروبا سنلاحظ أن أي تغير على الاقتصاد مهما كان طفيفاً يثير الكثير من القلق. فإذا ارتفعت الفائدة واحد بالمائة على سبيل المثال بادر المحللون الاقتصاديون إلى قرع أجراس الإنذار عالياً خوفاً من خطر الكساد ويلحقهم كتاب السياسة منذرين بخطر الأزمة الاجتماعية المرتقبة على فرص الحزب الحاكم في الانتخابات التالية. في لبنان وبرغم الربيع الديمقراطي، هناك شتاء اجتماعي كئيب يعصف بأغلب الناس, فهم يجأرون بالشكوى من التدهور الاقتصادي الذي تعيشه البلاد ومن جوع تعاني منه الطبقات الاجتماعية الفقيرة، ومن ضيق عيش عند الطبقات الوسطى يدفع أبناءها وبناتها للهجرة. مع ذلك فهناك فرص عمل كثيرة في لبنان, لكن تدني أجورها يجعل اللبنانيين يتركونها لضيوفهم من سري لانكا وسوريا ومصر. من مصر نفسها التي تشكك في صدقية هستيريا الأمريكيين والأوروبيين تجاه التقلبات الطفيفة في اقتصادهم… وهي تعطي الدروس للبنانيين وكل العرب في كيفية التعامل مع سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. المصريون في غالبيتهم الساحقة -فلاحون وأهل مدن- يعيشون بؤساً خالصاً الآن ومنذ أزمنة بعيدة، ربما منذ آلاف السنين. أجدادهم وآباؤهم وصولاً إلى الجيل الراهن كانوا يموتون بالآلاف في بناء مقابر ملوكهم، في حروب عبثية، في أوبئة لا حصر لها، في سجون طغاتهم، في قطارات تحترق وسفن تغرق ومبان تنهار على أهلها لأن مواد بنائها مغشوشة. المصريون يموتون بسهولة ويعانون باستمرار حتى أمست المعاناة شيئاً عادياً. برغم ذلك كله هم يستقبلون كل يوم بفخر واعتزاز غير معقولين: “نحنا اللي خرمنا التعريفة ودهنّا الهواء دوكو”.
قال عنهم عمرو بن العاص أن نساءهم لعب، وبلادهم لمن غلب، يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا. فسّر الغزاة والفاتحون النفسية المصرية بأنها خاضعة مطواعة, ولم يفهموا أن وراء رقة الطبع الظاهرة هناك صلابة جعلتهم يستمرون بالوجود لأكثر من 5 آلاف عام فيما غزاتهم شدوا الرحال أو ذابوا في مصر. وحين وقّعوا معاهدة الصلح مع إسرائيل اتهم كثير من العرب المصريين بأنهم متخاذلون, وأنهم خانوا عروبتهم وإسلامهم. لكنهم -وبرغم غضبهم للاتّهام- كانوا لا يملون من تذكير مجادليهم بصبر: لقد استرجعنا سيناء. لقد حفظنا حياة أبنائنا من الموت. لقد جنبنا أنفسنا المزيد من الإنفاق على التسابق الحربي مع إسرائيل. لقد ضمنّا معونات ضخمة من أمريكا… لقد… لقدبرغم بؤس مصر الهائل الذي تكشفه الإحصاءات والتقارير المختلفة إلا أنها بلد تمتلك ثروات حقيقية. فالزراعة في رأي أكثر المختصين كفيلة بمفردها بإخراج مصر من أزماتها، فهي تتمتع بالقدرة على تنويع المحاصيل وعلى استزراع وحصد أراضيها مراراً في العام الواحد, وهي ميزة نادرة في العالم بالنظر إلى الطقس المعتدل والخصوبة الكبيرة لتربتها, وفوق ذلك كله بسبب نهرها الذي لا يمل المصريون من وصفه بأنه خالد. والسياحة قد تكون هي النشاط الذي يمكن أن يطلق عملية التحليق الاقتصادي الذي طال انتظار المصريين له بسبب سياسات الحكومات المصرية المتعاقبة, وحديثاً بسبب عمليات العنف ضد السائحين الأجانب. لو تيسّر لمصر إدارة كفؤة لقطاعي الزراعة والسياحة لما عري أو جاع ابن من أبنائها ولا اضطر للهجرة طلباً للعمل. لكن الثروة الأعظم في مصر تتمثل في أهلها وليس في أرضها أو معالمها السياحية. إذا دققنا سوف لن نلقى يداً عاملة متميزة بشكل أكبر من دول مشابهة من دول العالم, فلا التعليم المصري نجح في تمكين الأجيال الجديدة من نيل المعارف والمهارات الحديثة, بل على العكس من ذلك, فمخصصات التعليم عاجزة عن تلبية الحدود الدنيا، والرعاية الصحية المختلة لا تجعل شعب مصر صحيح الجسم حقاً، فهناك سوء تغذية وهناك استيطان لأمراض خطيرة مثل التهاب الكبد.
رأس مال المصري الحقيقي ليس تعليمه ولا مستواه الصحي, هو شيء مختبئ في تلافيف دماغه: رؤية خاصة للحياة، فلسفة معينة يتميّز بها المصري عن غيره تجعله بقدرة قادر يتعايش مع أسوأ الظروف وأصعبها. لو وضع الأمريكيون والأوروبيون في ظروف حياة المصريين لما احتملوا العيش, ولهاجروا فوراً, ولو تعذّر ذلك لانتحر كثير منهم.
ثروة المصريين هي ثقاف خاصة تحتوي على الكثير من الصبر والتقشف، أو هي بالأحرى تجعل التقشف فضيلة, لأن الترف مستحيل، وهي ثقافة خلاقة تمكن ربة البيت من تحويل موارد زهيدة لطعام يقيم أود الأسرة على امتداد الشهر كله ويوفر الملابس الكافية لها أيضا… ثقافة التقشّف المصرية هي شيء مناقض للاستهلاك الشره الذي يفتك بالعديد من مجتمعاتنا العربية, والذي يدفع الناس لإبدال هواتفهم النقالة كل بضعة أشهر ولاقتناء المزيد من الملابس بينما ملابس جديدة غيرها لم يتم ارتدائها بعد…
الذي حفظ مصر في وجه الغزاة لم يكن جيشها, والذي جعلها تقاوم طغيان حكامها لم يكونوا ثوارها أو مصلحوها؛ ما جعلها تصمد هو صبرها الأزلي على الأذى وعلى الفقر وتكيّفها مع أقسى الظروف, وهي نجحت في ذلك كله لأن أبناءها لم يسمحوا لأنفسهم أن يغوصوا في كآبة مدمرة. المصريون كانوا متفائلين باستمرار حتى وهم تحت الاحتلال أو الهزائم أو الطاعون أو الطغيان… والذي جعل مصر مستمرة برغم كل شيء هو قدرتها على أن تسخر من حكامها وجلاديها وأن تملك الشجاعة أن تضحك, وهي تجوع, على نفسها أيضا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى