ملف الديمقراطية- الديمقراطية... الأسرة أولاً
صفحة 1 من اصل 1
ملف الديمقراطية- الديمقراطية... الأسرة أولاً
يختلف الكثيرون حول نقطة البدء في عملية الديمقراطية، فالبعض يرى أن الديمقراطية نظام حكم، أي أنها تخص البناء الفوقي، وبالتالي فهي جملة من الممارسات والطرق والنظم التي يتم بموجبها حكم بلد ما، لذلك فهي تبدأ من صناديق الاقتراع وصولاً إلى إقرار السياسات الداخلية والخارجية. في حين يذهب البعض الآخر إلى أنها تعبير سياسي عن منظومة اقتصادية محددة تاريخياً (الرأسمالية)، أي أنها من جملة البناء التحتي، وبالتالي فهي تبدأ من إتباع قوانين اقتصاد السوق والمنافسة الحرة. ويميل فريق ثالث إلى القول أنه بالرغم مما في المفهومين السابقين من صحة، إلا أن الممارسة الديمقراطية، ونظراً لكونها شكل حكم سياسي، ومناخ ملائم لبيئة اقتصادية من نمط محدد، فهي أسلوب حياة تعيش بمقتضاه جميع خلايا المجتمع، بدءاً بالفرد وانتهاءً بشكل الحكم السياسي. وبما أن الأسرة في النمط الاجتماعي السائد حالياً، هي الخلية الأساسية للبناء الاجتماعي، فلا بد من أن تبدأ الديمقراطية من هذه الوحدة الأساس. فالسياسي، ورجل الأعمال، والمثقف، والموظف، والعامل لا يمكن أن يتعامل مع الآخرين بشكل ديمقراطي ما لم يكن في بيته وبين أفراد أسرته ديمقراطياً، ولن تولد أجيال تهضم، وتستوعب وتتمثل القيم الديمقراطية وهي تعيش في ظل بيئة أسروية تكون القيمة التسلطية هي الناظم لها.
ولكن ذلك لا يعني أبداً الوقوع في حلقة مفرغة (أب ديكتاتور – ابن مقموع يتحول إلى ديكتاتور آخر في أسرته الخاصة...وهكذا دواليك). لأننا بذلك نسقط من حسباننا عاملاً على غاية من الأهمية والتأثير في التطور والتاريخ، ألا وهو الوعي والإرادة على التغيير، فانفتاح العالم الواسع على بعضه بعد ثورة المعلومات والاتصالات، أو ما يدعى بظاهرة "القرية الصغيرة"، جعل من المستحيل على الفرد أن ينعزل عن العالم الخارجي وتأثيراته، كما جعل من المستحيل على الابن أن يكون صنو أبيه، ولم يعد المثل القائل "من شابه أبيه ما ظلم" صالحاً في عالمنا هذا، بل أصبح اليوم "من شابه أبيه صار متخلفاً".
إن التطور التاريخي الطويل الذي مرت به البشرية، والذي دُوِّن في كتب الأساطير والكتب السماوية، يعبر تعبيراً واضحاً عن تسلط الرجل وديكتاتوريته في الأسرة، التي جاءت لتعززها فيما بعد الأعراف والتقاليد والقوانين الوضعية، بوصفها الركيزة الأساسية للسلطة البطريركية في المجتمع ككل، والتي لا يمكنها أن تدوم ما لم يكن الرجل سيداً على أسرته.
فقد كان الإله "القمر" يلعب دوراً كبيراً في الأساطير الدينية عند الأقدمين، دوراً يتناسب مع مقامه باعتباره رجلاً، أي زوجاً، وهو الرب والسيد وصاحب الكلمة على زوجه وأهله، وهو القوي ذو الحق وعلى الزوجة حق الطاعة والخضوع له. وهو صاحب الحول والصول والقوة... بينما قامت منظومة أيديولوجية كاملة على اللعنة الأبدية للمرأة باعتبارها حليفة الشيطان تحمل الشر أينما ذهبت والفتنة أينما حلت، وبالتالي ضرورة تهميشها والتأكيد على دونيتها. هذه الصورة، السائدة في حقب تاريخية متتالية وبعيدة، والتي تفاوتت في صعودها وهبوطها، مازلنا نجد بصماتها حتى يومنا هذا في علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، وفي اعتراف كل منهما بالآخر.
فهل تتجسد القيم والمفاهيم الديمقراطية في أسرنا، التي تعد امتداداً طبيعياً لهذه الرؤى والتصورات... أزواجاً كنا أم آباء أو أبناء؟ وهل نستطيع تمثلها من مواقعنا المختلفة، أم أننا نقف عاجزين مرتدين نحو ماضينا الذي يعزز سلطة الرجل (زوجاً أو أباً أو أخاً)؟؟
هل يسمح الرجل بمساحة تفصله عن المرأة، أقل ديكتاتورية وتسلطاً، أي أكثر ديمقراطية واعترافاً بالطرف الآخر، على اعتبار أنها كائن إنساني كامل الحقوق.
اتسمت مجتمعاتنا عموماً بالطابع الذكوري على أساس أن في الرجل الكمال والقوة، وفي المرأة النقص والخطيئة. فقد احتفظ الرجل عبر التاريخ بمكانته العليا، وبسلطته البطرياركية في الأسرة التي تحمل الفحولة الأبوية في وعيها أو لا وعيها. هذه السلطة التي تمنحه الحق بالتفرد بالقرار ابتداء بما يخص أبسط الأمور المعيشية للأسرة وانتهاء بأهم ما قد يمس المرأة (كالطلاق مثلاً). بينما تدفع المرأة الثمن الأغلى، حيث لا يتاح لها في أحيان كثيرة التعبير عن رأيها أو تقرير مصيرها، رغم مشاركتها الحقيقية والفعالة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب تأثيرها الكبير ضمن نطاق أسرتها من تربية الأولاد ومتابعة شؤونهم والقيام بالأعمال المنزلية.
وفي حين يهرب الرجل من محيطه خارج الأسرة، حيث يكون خاضعاً لسلطة أعلى، سواء تمثلت في رب العمل، أو المدير، أو رجل الأمن، أو رجل الدين... (وما أكثر من الرموز التي تحمل صولجان السلطة في حياتنا)، ليلجأ إلى داخل الأسرة ويمارس كل صنوف القهر والعسف التي يعاني منها في الخارج، على أفراد أسرته (وزوجته أولاً)، فهو في هذا الحيز صاحب الأمر والنهي دون منازع.
لذلك، قلما نلمس وجوداً للقيم الديمقراطية على مستوى العلاقة الزوجية، طالما ليس ثمة اعتراف حقيقي بالمرأة صنواً للرجل، على الرغم مما لهذه القيم القائمة على الحوار وتبادل الآراء من تأثير يغني الحياة الزوجية ويفعّل إمكانية التفاهم ويعمق إحساس كل طرف بنفسه وبالآخر. هذا الحوار الذي من شأنه أن يرسخ الجوهر الإنساني والنبيل للعلاقة الزوجية، ويطيل أمدها ويعزز من نتاجها على صعيد الزوجين والأبناء. ومن شأنه أيضاً أن يضفي حالة من التعاون المثمر التي تفتح آفاق تطور تعود بالنفع على جميع الأطراف المعنية في الأسرة في إطارٍ من التفاعل والتناغم.
وعلى مستوى آخر للعلاقات داخل الأسرة، نجد مجالاً واسعاً يمكن أن تتجسد فيه القيم الديمقراطية أيضاً، أي علاقة الآباء بالأبناء. ففي الغالب الأعم تبدو العلاقة بين جيلين، يمثل الآباء أحد أطرافها والأبناء الطرف الآخر، كلعبة شد الحبل، ولكنها ليست هنا بغرض التسلية، إنما أشبه ما تكون بقانون الفعل ورد الفعل، فلكل فعلٍ رد فعلٍ يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه، حيث تجسد هذه العلاقة اختلافاً في الآراء والمواقف تجاه كثير من القضايا الذاتية والاجتماعية، لتصل في بعض الأحيان إلى صراع حقيقي بين منظومتي تفكير مختلفتين تماماً. وتبدو الحالة طبيعية إذا ما أخذنا نسبية القيمة والمفاهيم، واختلاف الرؤية بين جيلين، تبعاً للمسافة الزمنية الفاصلة بينهما.
_ لمن تكون الغلبة في نهاية المطاف؟
يعطي الأبناء الحق لأنفسهم باكتشاف العالم، ويؤمنون بالتجربة، لديهم إحساس بالمغامرة، يرفضون أن يرسم لهم الآخرون شكل حياتهم وطرق تفكيرهم، وفي ذلك شيء من البحث عن الذات وإثبات لشخصية مستقلة لها كيان متفرد قادر على شق طريق مختلف، يطالبون بالحرية والتخلص من رقابة الأهل، وبمنحهم الثقة، ويحاولون جاهدين أن يثبتوا أنهم على درجة من الوعي والمسؤولية تجعلهم أهلاً لها. يميلون إلى التجديد وتغيير العادي والمألوف.
وفي المقابل، يسعى الآباء إلى ترسيخ ما ألفوه من قيم وأفكار وممارسات، حتى ولو كان في ذلك كبتاً وتسلطاً على تطلعات الأبناء. فهم يعتقدون أن الحياة قد أغنت تجربتهم وأعطتهم من الحقيقة ما لا يملكه الأصغر سناً. وبناء على السلطة الممنوحة لهم عرفاً وقانوناً، يحق لهم فرض ما يرونه صحيحاً بكل ما أتيحت لهم من وسائل. فيقررون طريقة معيشة وسلوك وتفكير أبنائهم بالشكل الذي يوافق معتقداتهم. ولا يرون في يحمله الأبناء إلا بدعاً وكفراً وخروجاً عن الطريق القويم في غالب الأحيان. وتشتد هنا حدة الصراع، وتغدو الحاجة إلى حسمه ملحةً، فإما الاستمرار والقبول بالنهج المألوف والمرسوم من قبل الآباء، أو كسر الطوق والخروج عن طاعتهم، وبالتالي استحقاق لعنتهم وغضبهم.
ولا يغيب عن ذهننا أن الحياة ليست محصورة بين هذين الحدين فقط، فقد وجدت الكثير من الحالات حلولاً لها غير الخضوع أو التمرد. فحيث ساد الحوار كانت هذه العلاقة أقل توتراً وكان كل من الطرفين أكثر تفهماً للآخر، وهذا يتبع البنية النفسية والأيديولوجية للآباء في مدى اتساعها لاستيعاب متطلبات وتطلعات الأبناء على اختلاف أنواعها وتوجهاتها. ويتبع لا شك مدى احترام الأبناء لتجربة الآباء للوصول إلى الصيغة الحياتية النهائية التي تتماشى مع إرادة الآباء الرصينة وتطلعات الأبناء التواقة إلى كل ما هو جديد.
ومن تجارب الشعوب، التي نمت وتطورت فيها القيم والمفاهيم الديمقراطية كممارسات أصيلة بين بناها وتركيباتها الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والثقافية، نرى أنه حيث ساد الحوار وقبول الآخر، كان هناك غنىً وإبداع وتطور بلا حدود. وحيث غابت هذه القيم والمفاهيم، ابتداء من الأسرة وصولاً إلى السلطة السياسية، ساد العنف والتسلط والفقر.
ولكن ذلك لا يعني أبداً الوقوع في حلقة مفرغة (أب ديكتاتور – ابن مقموع يتحول إلى ديكتاتور آخر في أسرته الخاصة...وهكذا دواليك). لأننا بذلك نسقط من حسباننا عاملاً على غاية من الأهمية والتأثير في التطور والتاريخ، ألا وهو الوعي والإرادة على التغيير، فانفتاح العالم الواسع على بعضه بعد ثورة المعلومات والاتصالات، أو ما يدعى بظاهرة "القرية الصغيرة"، جعل من المستحيل على الفرد أن ينعزل عن العالم الخارجي وتأثيراته، كما جعل من المستحيل على الابن أن يكون صنو أبيه، ولم يعد المثل القائل "من شابه أبيه ما ظلم" صالحاً في عالمنا هذا، بل أصبح اليوم "من شابه أبيه صار متخلفاً".
إن التطور التاريخي الطويل الذي مرت به البشرية، والذي دُوِّن في كتب الأساطير والكتب السماوية، يعبر تعبيراً واضحاً عن تسلط الرجل وديكتاتوريته في الأسرة، التي جاءت لتعززها فيما بعد الأعراف والتقاليد والقوانين الوضعية، بوصفها الركيزة الأساسية للسلطة البطريركية في المجتمع ككل، والتي لا يمكنها أن تدوم ما لم يكن الرجل سيداً على أسرته.
فقد كان الإله "القمر" يلعب دوراً كبيراً في الأساطير الدينية عند الأقدمين، دوراً يتناسب مع مقامه باعتباره رجلاً، أي زوجاً، وهو الرب والسيد وصاحب الكلمة على زوجه وأهله، وهو القوي ذو الحق وعلى الزوجة حق الطاعة والخضوع له. وهو صاحب الحول والصول والقوة... بينما قامت منظومة أيديولوجية كاملة على اللعنة الأبدية للمرأة باعتبارها حليفة الشيطان تحمل الشر أينما ذهبت والفتنة أينما حلت، وبالتالي ضرورة تهميشها والتأكيد على دونيتها. هذه الصورة، السائدة في حقب تاريخية متتالية وبعيدة، والتي تفاوتت في صعودها وهبوطها، مازلنا نجد بصماتها حتى يومنا هذا في علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، وفي اعتراف كل منهما بالآخر.
فهل تتجسد القيم والمفاهيم الديمقراطية في أسرنا، التي تعد امتداداً طبيعياً لهذه الرؤى والتصورات... أزواجاً كنا أم آباء أو أبناء؟ وهل نستطيع تمثلها من مواقعنا المختلفة، أم أننا نقف عاجزين مرتدين نحو ماضينا الذي يعزز سلطة الرجل (زوجاً أو أباً أو أخاً)؟؟
هل يسمح الرجل بمساحة تفصله عن المرأة، أقل ديكتاتورية وتسلطاً، أي أكثر ديمقراطية واعترافاً بالطرف الآخر، على اعتبار أنها كائن إنساني كامل الحقوق.
اتسمت مجتمعاتنا عموماً بالطابع الذكوري على أساس أن في الرجل الكمال والقوة، وفي المرأة النقص والخطيئة. فقد احتفظ الرجل عبر التاريخ بمكانته العليا، وبسلطته البطرياركية في الأسرة التي تحمل الفحولة الأبوية في وعيها أو لا وعيها. هذه السلطة التي تمنحه الحق بالتفرد بالقرار ابتداء بما يخص أبسط الأمور المعيشية للأسرة وانتهاء بأهم ما قد يمس المرأة (كالطلاق مثلاً). بينما تدفع المرأة الثمن الأغلى، حيث لا يتاح لها في أحيان كثيرة التعبير عن رأيها أو تقرير مصيرها، رغم مشاركتها الحقيقية والفعالة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب تأثيرها الكبير ضمن نطاق أسرتها من تربية الأولاد ومتابعة شؤونهم والقيام بالأعمال المنزلية.
وفي حين يهرب الرجل من محيطه خارج الأسرة، حيث يكون خاضعاً لسلطة أعلى، سواء تمثلت في رب العمل، أو المدير، أو رجل الأمن، أو رجل الدين... (وما أكثر من الرموز التي تحمل صولجان السلطة في حياتنا)، ليلجأ إلى داخل الأسرة ويمارس كل صنوف القهر والعسف التي يعاني منها في الخارج، على أفراد أسرته (وزوجته أولاً)، فهو في هذا الحيز صاحب الأمر والنهي دون منازع.
لذلك، قلما نلمس وجوداً للقيم الديمقراطية على مستوى العلاقة الزوجية، طالما ليس ثمة اعتراف حقيقي بالمرأة صنواً للرجل، على الرغم مما لهذه القيم القائمة على الحوار وتبادل الآراء من تأثير يغني الحياة الزوجية ويفعّل إمكانية التفاهم ويعمق إحساس كل طرف بنفسه وبالآخر. هذا الحوار الذي من شأنه أن يرسخ الجوهر الإنساني والنبيل للعلاقة الزوجية، ويطيل أمدها ويعزز من نتاجها على صعيد الزوجين والأبناء. ومن شأنه أيضاً أن يضفي حالة من التعاون المثمر التي تفتح آفاق تطور تعود بالنفع على جميع الأطراف المعنية في الأسرة في إطارٍ من التفاعل والتناغم.
وعلى مستوى آخر للعلاقات داخل الأسرة، نجد مجالاً واسعاً يمكن أن تتجسد فيه القيم الديمقراطية أيضاً، أي علاقة الآباء بالأبناء. ففي الغالب الأعم تبدو العلاقة بين جيلين، يمثل الآباء أحد أطرافها والأبناء الطرف الآخر، كلعبة شد الحبل، ولكنها ليست هنا بغرض التسلية، إنما أشبه ما تكون بقانون الفعل ورد الفعل، فلكل فعلٍ رد فعلٍ يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه، حيث تجسد هذه العلاقة اختلافاً في الآراء والمواقف تجاه كثير من القضايا الذاتية والاجتماعية، لتصل في بعض الأحيان إلى صراع حقيقي بين منظومتي تفكير مختلفتين تماماً. وتبدو الحالة طبيعية إذا ما أخذنا نسبية القيمة والمفاهيم، واختلاف الرؤية بين جيلين، تبعاً للمسافة الزمنية الفاصلة بينهما.
_ لمن تكون الغلبة في نهاية المطاف؟
يعطي الأبناء الحق لأنفسهم باكتشاف العالم، ويؤمنون بالتجربة، لديهم إحساس بالمغامرة، يرفضون أن يرسم لهم الآخرون شكل حياتهم وطرق تفكيرهم، وفي ذلك شيء من البحث عن الذات وإثبات لشخصية مستقلة لها كيان متفرد قادر على شق طريق مختلف، يطالبون بالحرية والتخلص من رقابة الأهل، وبمنحهم الثقة، ويحاولون جاهدين أن يثبتوا أنهم على درجة من الوعي والمسؤولية تجعلهم أهلاً لها. يميلون إلى التجديد وتغيير العادي والمألوف.
وفي المقابل، يسعى الآباء إلى ترسيخ ما ألفوه من قيم وأفكار وممارسات، حتى ولو كان في ذلك كبتاً وتسلطاً على تطلعات الأبناء. فهم يعتقدون أن الحياة قد أغنت تجربتهم وأعطتهم من الحقيقة ما لا يملكه الأصغر سناً. وبناء على السلطة الممنوحة لهم عرفاً وقانوناً، يحق لهم فرض ما يرونه صحيحاً بكل ما أتيحت لهم من وسائل. فيقررون طريقة معيشة وسلوك وتفكير أبنائهم بالشكل الذي يوافق معتقداتهم. ولا يرون في يحمله الأبناء إلا بدعاً وكفراً وخروجاً عن الطريق القويم في غالب الأحيان. وتشتد هنا حدة الصراع، وتغدو الحاجة إلى حسمه ملحةً، فإما الاستمرار والقبول بالنهج المألوف والمرسوم من قبل الآباء، أو كسر الطوق والخروج عن طاعتهم، وبالتالي استحقاق لعنتهم وغضبهم.
ولا يغيب عن ذهننا أن الحياة ليست محصورة بين هذين الحدين فقط، فقد وجدت الكثير من الحالات حلولاً لها غير الخضوع أو التمرد. فحيث ساد الحوار كانت هذه العلاقة أقل توتراً وكان كل من الطرفين أكثر تفهماً للآخر، وهذا يتبع البنية النفسية والأيديولوجية للآباء في مدى اتساعها لاستيعاب متطلبات وتطلعات الأبناء على اختلاف أنواعها وتوجهاتها. ويتبع لا شك مدى احترام الأبناء لتجربة الآباء للوصول إلى الصيغة الحياتية النهائية التي تتماشى مع إرادة الآباء الرصينة وتطلعات الأبناء التواقة إلى كل ما هو جديد.
ومن تجارب الشعوب، التي نمت وتطورت فيها القيم والمفاهيم الديمقراطية كممارسات أصيلة بين بناها وتركيباتها الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والثقافية، نرى أنه حيث ساد الحوار وقبول الآخر، كان هناك غنىً وإبداع وتطور بلا حدود. وحيث غابت هذه القيم والمفاهيم، ابتداء من الأسرة وصولاً إلى السلطة السياسية، ساد العنف والتسلط والفقر.
إذن، هل نستطيع تغيير بعض من هذا النتاج نحو خطوات أكثر إيجابية وفعالية من أجل حياة أجمل؟ أم أننا نميل إلى الإبقاء عليها مهما حملت في طياتها من سلبيات وعنف وتسلط؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى