سحر أسود
صفحة 1 من اصل 1
سحر أسود
منذ عام , تقريباً , انتقل باسم من شقته فى مصر الجديدة ليعيش فى مرسمه بالقرية بعيداً عن القاهرة وعنا .
كان ينتقم من الجميع بفرض عزلة شبه كاملة على نفسه بعد مصرع لمياء .
كانت وحدها فى سيارتها الصغيرة فى طريقها إلى الإسكندرية لتقضى أسبوعاً مع أمها .أخرجوها من بين صاج السقف والدواسات والحديد،و شظايا الزجاج على وجهها وملابسها . أخرجوها ميتة . جسد كبير سليم جميل للغاية برأس شبه مهشم , والدماء ناشفة , متجلطة على رقبتها ووجهها وشعرها الطويل . ارتطم رأسها بعجلة القيادة وسقط فوقها سقف السيارة , دهستها عربة نقل محملة بأسياخ حديد من الخلف , وقفزت على مؤخرة سيارتها وكادت تسويها بالأرض .
نقل باسم بعض الأثاث القليل من شقته إلى المرسم , وقبع هناك كسلحفاة تحت صدفة . كنت أزوره أحياناً لأنني كنت أظن , بشكل ما , أنه وحيد هناك . يأكل , ويفرط فى الشراب, يرسم ويهذى ويتألم فى صمت مثل كلب جريح ملقى على رصيف أحد الشوارع الجانبية, وحده .
لم يكن باسم مغرماً بلمياء كثيراً , لكنها كانت فتاة رائعة الجمال بمقاييس باسم الجمالية . شعرها الذهبي طويل وطائش ينسدل على ظهرها حتى منبت ردفيها اللدنين, الطريين ,اللذين يهتزان مع حركتها الرشيقة. عيناها خضراوان واسعتان , بصعوبة تكشفان أسىً رقيقاً مألوفاً عند أصدقائها . كان جسدها الأبيض لين طرى ينساب بنعومة ورقة فى شهوانية مدورة ملفوفة , لا سبيل إلى تجرعها إلا ببطء وعلى مهل .
إذا استبدلنا ببياضها المشرب بحمرة شفافة ذهبية أجساد محمود سعيد لصارت خارجة لتوها من إحدى لوحاته، ذات الجدائل الذهبية مثلاً , إلا إن لمياء ارتقت و تخلصت من سوقية العربدة و الشهوة و العنف . هكذا يمدحها باسم حين يعن له مغازلتها .
كان يتركها , ويُظهر للجميع أنه يتجول بين أصناف النساء غير مبالٍ بغيرتها المكشوفة , والتي تعبر ليّ عنها حانقة غاضبة " لجّم صاحبك " ، " قوله عيب كده" , "عقله يا أخي هو مش صاحبك " . هو كان يبدو مبتهجاً بإثارة غيرتها و غضبها .كثيراً ما يقول " بحبها موت وهى غيرانة ", ويُسر ليّ هامساً بأن الغيرة , الغيرة وحدها هي الحبل المتين الذي يضعه فى عنقها , لتبقى معه . كان يغازل ميّ أمامها , وأمام عيني "غزلاً صريحاًً " غير بريء بالمرة . كنت واثقاً من نفسي أيامها , أريد أن أتخلص من ميّ , أريدها أن تذهب للفراش مع باسم , أو كنت أحس ميول باسم الحقيقية .. لا أعرف .
لمياء كانت تكتفي بإخفاء ما بها تحت رموش عينيها الطويلة , وتسكت . وحين يفيض بها تذهب إلى أمها , وبعد أيام تعود , تأخذ باسم فى حضنها الدافىء , وهو يبكى , ويشتكى مما قاساه فى غيبتها عنه ويشتمها ويلعن أمها وأبيها .
كنت أتوقع أنها سترحل عنه يوماً ما ، بهدوء , بلا ضوضاء أو صخب أو حتى مشاجرة صغيرة . تحمل حقيبة ملابسها وجيتارها وتلقى يهما فى سيارتها و تمضى , ولا تعود هذه المرة . باسم ليس ممن يثيرون الجلبة لفقدانهم زوجاتهم , إنه يتشاجر فقط , حين تعود وحدها . كان سيقول " بسيطة بسيطة افعلي ما ترغبين فيه , ما تريدين إن كنتِ متأكدة إنكِ لا تريدينني ". لو سمعته يقول لها ذلك وهو يضغط على الحروف بطريقته عندما يريد أن يؤكد أنه يعنى ما يقوله تماماً لم تكن لتهجره أبداً .
ذات ليلة , كنت سأبيت عند هما. بعد انفضاض السهرة وذهاب نعمان و أكرم وميّ وآخرين , كان باسم قد نام فى مكانه على الأريكة ورأسه فى حجر لمياء . هي كانت جالسة فى طرف الكنبة ويدها على شعره الكثيف الناعم , تشمله بنظرة أمومية , تقريباً .
قالت وهى لا ترفع عينيها عن وجهه :
" أنت غبي وحمار كبير .. مش حتفهم " .
" مش فاهم فعلاً " .
أبداً، ربما حتى هذا اليوم , لا أفهم سرها مع باسم . باسم الرقيق العذب فى جماله شبه الأنثوي .كان قصيراً , أقصر منها بنحو عشرة سنتيمترات , نحيفاً , ومن وجهه المدور النضر يفيض نور خافت ضعيف يزداد حين يسلط عينيه على الآخرين . عيناه عسليتان كبيرتان .
" الوجه .. الوجه هو كل شيء فى الرجل ؟! "
"أنت , قلت لك , أنت حمار أو لأنك مصور لا ترى فى الناس غير وجوههم.. أوه ، تقصد الجسم، الكتفين و الذراعين و الصدر العريض ..و.. "
ضحكت ضحكة ماجنة هائلة
" تقصد العضو يعنى ؟! "
"مثلاً "
" مين الست الغبية اللي فهمتك إن الرجل عبارة عن عضو كبير ! "
" أنتِ مش مهتمة ؟ "
" أوه , طبعاً , أنا أهتم به جداً , للغاية ،ولكن الرجل قبل أي شيء آخر ليس سوى طفل يا ابني .. "
كانت نبرة صوتها حزينة قليلاً .
لم أصدقها , ولم أفهم . كانت تبدو ليّ هي نفسها , بسبب نفسها لا بسبب وجود باسم فى حياتها , أنثى ممتلئة بمتعة نرجسية خالصة ليست لها صلة بإغواء رجل ما , لم تكن تحتاج شخصاً زائداً عن ذاتها , ربما كانت تحتقر الذكر والجنس فاختارت أقرب الأشكال الذكورية إلى جنسها , وإلى فرديتها الخاصة . اختارت باسم للرفقة و الصحبة، لا شيء أكثر . وهاهي قد غادرته بأكثر الطرق بساطة وهدوءاً وأقلها إيلاما ً! . قُتلت خطأًً فى حادث غير مقصود .
غير مقصود . غير مفهوم . عبث .عبث .
باسم تحول بعد مقتلها إلى شخص غريب , ربما غريب مثلي أنا تماماً .
شخص غارق فى التفكير فى كل شيء ,في حروبنا وهزائمنا و جوعنا ، غارق فى التفكير فى الجميع لدرجة تجعله فى النهاية محدوداً تماماً بحدود ذاته , لا يدخله نفس من أي كائن آخر . على حد تعبيره , شخص فرض على نفسه العزلة عن الاتصال بالكون الحى . كان يحب , قبل أي شيء آخر , الفن والسينما , والكتب. صار أنانياً و نرجسياً , تماماً مثل الفنانين الذين كان يتهكم عليهم دائماً , يسبهم ويلعنهم و يرجو أن تتاح له الفرصة والشجاعة للبصق فى وجوههم جميعاً .
أخذني من يدي وفاتن تراقبنا لأرى لوحاته الجديدة . انظر كيف خلقت هذا و انظر كم هو رائع هذا اللون , هل فهمت هذا التكنيك الجديد على أعمالي , هذه مرحلة جديدة من مراحل تطوري , المرحلة الأعظم , خد بالك من الملامس العجيبة التى صنعتها هنا , و الكتلة هنا و علاقتها بالفراغ , لا تكن ساذجاً وتحيل ما فى اللوحة إلى الواقع الخارجي , ليس هذا الموجود على سطح القماش وجه لمياء , هذا ليس بورتريه .. هذه ألوان , ألوان وقماش وملامس وروح تتجلى , روحي أنا .
كنت أنصت إليه وفاتن مسلوبة تماماً , تحاول أن تتابعنا , لكنها الذاكرة المعطوبة . عيوب ذاكرتها تمنعها , أحياناً من التفكير المجرد والتركيب العقلي , كما تقول , كلما أرادت أن تدعى الحماقة , أو لتُظهر احتقارها لما يُقال . ذهبتْ إلى طبيب نفسي أحالها إلى طبيب مخ وأعصاب ,أخبرها بعد أن أجرى لها بعض الأشعة والفحوص أنه لا خوف . لاشيء كثير، بعض القصور فى الذاكرة , قصور خفيف , وهى أعجبها هذه الإمكانية الهائلة للتملص من كل شيء لا تريده بدعوى " آسفة لا أذكر " .
لم يكن باسم يحاول استمالة فاتن , على العكس، كان يعاملها باحتقار نوعاً ما , لكن صمتها , وعينيها المشدوهتين المحملقتين فى لوحاته , وتأملها الطويل لوجه لمياء جعله يمتلىء زهواً صغيراً بنفسه .باسم كان فناناً إلى درجة أنه كان لا يطيق أن أنطق باسم أحدهم أمامه ولو عرضاً . قلت يومها , إننى ما زلت أميل إلى فان جوخ , كل مرة أتأمل فيها لوحتىّ "الحذاء" , و"الغرفة" أندهش , وأرى فى فراغيهما من البشر , وجه الرجل المجنون الذي رسم المكان والأشياء وقطع أذنه , وانتحر . برقت عيناه واتسعتا وهو يتمتم طبعاً إنه رائع فعلاً , لكن انظر , انظر إلى الألوان هنا، هذه روح جديدة تماماً , لم تأت من قبل إلى اللوحات .. انظر , انظر حتى ما عدت قادراً على رؤية المزيد من إنتاجه الذي تضخم فى الشهور القليلة الأخيرة . تعبت ،فجلست على الحصير القش مستنداً بظهري إلى الحيط فارداً قدميّ , وتركته يواصل, بمتعة كبيرة عرض لوحاته على فاتن التى كانت لا تزال مندهشة و مشدوهة .
صعدنا إلى سطح البيت الصغير حيث عشة الفراخ والأرانب وبرج حمام صغير من الطين متهدم وفارغ . أخذ باسم يتكلم عن الفراخ البلدية و طعمها , و الخضروات و الفاكهة الطازجة , التى كان لا يعرفها فى مصر الجديدة، وكنت أتفرج على الحقول و الأشجار فى ضوء ما قبل الغروب .كانت السماء صافية , بسحب بيضاء صغيرة لا تنذر برياح الخماسين , وكنت أسخر من نفسي لإحساسي بالراحة هنا , مثل فلاح مغترب فى المدينة يعود إلى قريته فجأة .
ونحن نأكل فراخ باسم البلدية التى طبخها بمهارته المعهودة , جاء شاب خجول أومأ إلينا , وابتسم, فقام إليه باسم . قبّله قبلة سريعة خاطفة على شفتيه , و قال إنه حسنى صديقه الذي يعمل مدرساً للرسم بالقرية .
بدا ليّ أنهما متفاهمان إلى حد كبير , حتى إن جسديهما كانا فى نفس الحجم تقريباً . لم يكن باسم , هذه المرة , مهوش الشعر , نابت الذقن كما رأيته حين جئت وحدي منذ شهرين . كانت أوداجه متوردة , وشعره مصفف بعناية . أنيق فى جلبابه الأبيض النظيف . لم يعد باسم وحيداً هنا . ها هو قد استطاع أن يعبر أخيراً , بعد شهور طويلة كئيبة . ربما كانت لمياء هي التى تربط قدميه إلى سريرها الهاديء الخامل البريء . كان يبدو سعيداً باكتشافاته الجديدة . صار كل شيء فيه يؤكد ذاته بإصرار , إلى حد الصلف . لم يعد شخصاً غامضاً يُخفى نفسه طيلة الوقت , ويرتعش خائفاً من تهكمات وسخريات نعمان . أراهن أنه لديه الآن القدرة الكاملة على لكم وجه نعمان إلى حد تكسير سنتيه البارزتين فى فكه الأعلى .
ونحن عائديْن إلي القاهرة , قالت فاتن إن باسم كان يحب لمياء حباً عميقاً .
يجوز , على الرغم من إننى لست متأكداً أبداً من معنى كلمة " يحب " هذه . أبداً .<hr width="50%" color=#800000 SIZE=1>
كان ينتقم من الجميع بفرض عزلة شبه كاملة على نفسه بعد مصرع لمياء .
كانت وحدها فى سيارتها الصغيرة فى طريقها إلى الإسكندرية لتقضى أسبوعاً مع أمها .أخرجوها من بين صاج السقف والدواسات والحديد،و شظايا الزجاج على وجهها وملابسها . أخرجوها ميتة . جسد كبير سليم جميل للغاية برأس شبه مهشم , والدماء ناشفة , متجلطة على رقبتها ووجهها وشعرها الطويل . ارتطم رأسها بعجلة القيادة وسقط فوقها سقف السيارة , دهستها عربة نقل محملة بأسياخ حديد من الخلف , وقفزت على مؤخرة سيارتها وكادت تسويها بالأرض .
نقل باسم بعض الأثاث القليل من شقته إلى المرسم , وقبع هناك كسلحفاة تحت صدفة . كنت أزوره أحياناً لأنني كنت أظن , بشكل ما , أنه وحيد هناك . يأكل , ويفرط فى الشراب, يرسم ويهذى ويتألم فى صمت مثل كلب جريح ملقى على رصيف أحد الشوارع الجانبية, وحده .
لم يكن باسم مغرماً بلمياء كثيراً , لكنها كانت فتاة رائعة الجمال بمقاييس باسم الجمالية . شعرها الذهبي طويل وطائش ينسدل على ظهرها حتى منبت ردفيها اللدنين, الطريين ,اللذين يهتزان مع حركتها الرشيقة. عيناها خضراوان واسعتان , بصعوبة تكشفان أسىً رقيقاً مألوفاً عند أصدقائها . كان جسدها الأبيض لين طرى ينساب بنعومة ورقة فى شهوانية مدورة ملفوفة , لا سبيل إلى تجرعها إلا ببطء وعلى مهل .
إذا استبدلنا ببياضها المشرب بحمرة شفافة ذهبية أجساد محمود سعيد لصارت خارجة لتوها من إحدى لوحاته، ذات الجدائل الذهبية مثلاً , إلا إن لمياء ارتقت و تخلصت من سوقية العربدة و الشهوة و العنف . هكذا يمدحها باسم حين يعن له مغازلتها .
كان يتركها , ويُظهر للجميع أنه يتجول بين أصناف النساء غير مبالٍ بغيرتها المكشوفة , والتي تعبر ليّ عنها حانقة غاضبة " لجّم صاحبك " ، " قوله عيب كده" , "عقله يا أخي هو مش صاحبك " . هو كان يبدو مبتهجاً بإثارة غيرتها و غضبها .كثيراً ما يقول " بحبها موت وهى غيرانة ", ويُسر ليّ هامساً بأن الغيرة , الغيرة وحدها هي الحبل المتين الذي يضعه فى عنقها , لتبقى معه . كان يغازل ميّ أمامها , وأمام عيني "غزلاً صريحاًً " غير بريء بالمرة . كنت واثقاً من نفسي أيامها , أريد أن أتخلص من ميّ , أريدها أن تذهب للفراش مع باسم , أو كنت أحس ميول باسم الحقيقية .. لا أعرف .
لمياء كانت تكتفي بإخفاء ما بها تحت رموش عينيها الطويلة , وتسكت . وحين يفيض بها تذهب إلى أمها , وبعد أيام تعود , تأخذ باسم فى حضنها الدافىء , وهو يبكى , ويشتكى مما قاساه فى غيبتها عنه ويشتمها ويلعن أمها وأبيها .
كنت أتوقع أنها سترحل عنه يوماً ما ، بهدوء , بلا ضوضاء أو صخب أو حتى مشاجرة صغيرة . تحمل حقيبة ملابسها وجيتارها وتلقى يهما فى سيارتها و تمضى , ولا تعود هذه المرة . باسم ليس ممن يثيرون الجلبة لفقدانهم زوجاتهم , إنه يتشاجر فقط , حين تعود وحدها . كان سيقول " بسيطة بسيطة افعلي ما ترغبين فيه , ما تريدين إن كنتِ متأكدة إنكِ لا تريدينني ". لو سمعته يقول لها ذلك وهو يضغط على الحروف بطريقته عندما يريد أن يؤكد أنه يعنى ما يقوله تماماً لم تكن لتهجره أبداً .
ذات ليلة , كنت سأبيت عند هما. بعد انفضاض السهرة وذهاب نعمان و أكرم وميّ وآخرين , كان باسم قد نام فى مكانه على الأريكة ورأسه فى حجر لمياء . هي كانت جالسة فى طرف الكنبة ويدها على شعره الكثيف الناعم , تشمله بنظرة أمومية , تقريباً .
قالت وهى لا ترفع عينيها عن وجهه :
" أنت غبي وحمار كبير .. مش حتفهم " .
" مش فاهم فعلاً " .
أبداً، ربما حتى هذا اليوم , لا أفهم سرها مع باسم . باسم الرقيق العذب فى جماله شبه الأنثوي .كان قصيراً , أقصر منها بنحو عشرة سنتيمترات , نحيفاً , ومن وجهه المدور النضر يفيض نور خافت ضعيف يزداد حين يسلط عينيه على الآخرين . عيناه عسليتان كبيرتان .
" الوجه .. الوجه هو كل شيء فى الرجل ؟! "
"أنت , قلت لك , أنت حمار أو لأنك مصور لا ترى فى الناس غير وجوههم.. أوه ، تقصد الجسم، الكتفين و الذراعين و الصدر العريض ..و.. "
ضحكت ضحكة ماجنة هائلة
" تقصد العضو يعنى ؟! "
"مثلاً "
" مين الست الغبية اللي فهمتك إن الرجل عبارة عن عضو كبير ! "
" أنتِ مش مهتمة ؟ "
" أوه , طبعاً , أنا أهتم به جداً , للغاية ،ولكن الرجل قبل أي شيء آخر ليس سوى طفل يا ابني .. "
كانت نبرة صوتها حزينة قليلاً .
لم أصدقها , ولم أفهم . كانت تبدو ليّ هي نفسها , بسبب نفسها لا بسبب وجود باسم فى حياتها , أنثى ممتلئة بمتعة نرجسية خالصة ليست لها صلة بإغواء رجل ما , لم تكن تحتاج شخصاً زائداً عن ذاتها , ربما كانت تحتقر الذكر والجنس فاختارت أقرب الأشكال الذكورية إلى جنسها , وإلى فرديتها الخاصة . اختارت باسم للرفقة و الصحبة، لا شيء أكثر . وهاهي قد غادرته بأكثر الطرق بساطة وهدوءاً وأقلها إيلاما ً! . قُتلت خطأًً فى حادث غير مقصود .
غير مقصود . غير مفهوم . عبث .عبث .
باسم تحول بعد مقتلها إلى شخص غريب , ربما غريب مثلي أنا تماماً .
شخص غارق فى التفكير فى كل شيء ,في حروبنا وهزائمنا و جوعنا ، غارق فى التفكير فى الجميع لدرجة تجعله فى النهاية محدوداً تماماً بحدود ذاته , لا يدخله نفس من أي كائن آخر . على حد تعبيره , شخص فرض على نفسه العزلة عن الاتصال بالكون الحى . كان يحب , قبل أي شيء آخر , الفن والسينما , والكتب. صار أنانياً و نرجسياً , تماماً مثل الفنانين الذين كان يتهكم عليهم دائماً , يسبهم ويلعنهم و يرجو أن تتاح له الفرصة والشجاعة للبصق فى وجوههم جميعاً .
أخذني من يدي وفاتن تراقبنا لأرى لوحاته الجديدة . انظر كيف خلقت هذا و انظر كم هو رائع هذا اللون , هل فهمت هذا التكنيك الجديد على أعمالي , هذه مرحلة جديدة من مراحل تطوري , المرحلة الأعظم , خد بالك من الملامس العجيبة التى صنعتها هنا , و الكتلة هنا و علاقتها بالفراغ , لا تكن ساذجاً وتحيل ما فى اللوحة إلى الواقع الخارجي , ليس هذا الموجود على سطح القماش وجه لمياء , هذا ليس بورتريه .. هذه ألوان , ألوان وقماش وملامس وروح تتجلى , روحي أنا .
كنت أنصت إليه وفاتن مسلوبة تماماً , تحاول أن تتابعنا , لكنها الذاكرة المعطوبة . عيوب ذاكرتها تمنعها , أحياناً من التفكير المجرد والتركيب العقلي , كما تقول , كلما أرادت أن تدعى الحماقة , أو لتُظهر احتقارها لما يُقال . ذهبتْ إلى طبيب نفسي أحالها إلى طبيب مخ وأعصاب ,أخبرها بعد أن أجرى لها بعض الأشعة والفحوص أنه لا خوف . لاشيء كثير، بعض القصور فى الذاكرة , قصور خفيف , وهى أعجبها هذه الإمكانية الهائلة للتملص من كل شيء لا تريده بدعوى " آسفة لا أذكر " .
لم يكن باسم يحاول استمالة فاتن , على العكس، كان يعاملها باحتقار نوعاً ما , لكن صمتها , وعينيها المشدوهتين المحملقتين فى لوحاته , وتأملها الطويل لوجه لمياء جعله يمتلىء زهواً صغيراً بنفسه .باسم كان فناناً إلى درجة أنه كان لا يطيق أن أنطق باسم أحدهم أمامه ولو عرضاً . قلت يومها , إننى ما زلت أميل إلى فان جوخ , كل مرة أتأمل فيها لوحتىّ "الحذاء" , و"الغرفة" أندهش , وأرى فى فراغيهما من البشر , وجه الرجل المجنون الذي رسم المكان والأشياء وقطع أذنه , وانتحر . برقت عيناه واتسعتا وهو يتمتم طبعاً إنه رائع فعلاً , لكن انظر , انظر إلى الألوان هنا، هذه روح جديدة تماماً , لم تأت من قبل إلى اللوحات .. انظر , انظر حتى ما عدت قادراً على رؤية المزيد من إنتاجه الذي تضخم فى الشهور القليلة الأخيرة . تعبت ،فجلست على الحصير القش مستنداً بظهري إلى الحيط فارداً قدميّ , وتركته يواصل, بمتعة كبيرة عرض لوحاته على فاتن التى كانت لا تزال مندهشة و مشدوهة .
صعدنا إلى سطح البيت الصغير حيث عشة الفراخ والأرانب وبرج حمام صغير من الطين متهدم وفارغ . أخذ باسم يتكلم عن الفراخ البلدية و طعمها , و الخضروات و الفاكهة الطازجة , التى كان لا يعرفها فى مصر الجديدة، وكنت أتفرج على الحقول و الأشجار فى ضوء ما قبل الغروب .كانت السماء صافية , بسحب بيضاء صغيرة لا تنذر برياح الخماسين , وكنت أسخر من نفسي لإحساسي بالراحة هنا , مثل فلاح مغترب فى المدينة يعود إلى قريته فجأة .
ونحن نأكل فراخ باسم البلدية التى طبخها بمهارته المعهودة , جاء شاب خجول أومأ إلينا , وابتسم, فقام إليه باسم . قبّله قبلة سريعة خاطفة على شفتيه , و قال إنه حسنى صديقه الذي يعمل مدرساً للرسم بالقرية .
بدا ليّ أنهما متفاهمان إلى حد كبير , حتى إن جسديهما كانا فى نفس الحجم تقريباً . لم يكن باسم , هذه المرة , مهوش الشعر , نابت الذقن كما رأيته حين جئت وحدي منذ شهرين . كانت أوداجه متوردة , وشعره مصفف بعناية . أنيق فى جلبابه الأبيض النظيف . لم يعد باسم وحيداً هنا . ها هو قد استطاع أن يعبر أخيراً , بعد شهور طويلة كئيبة . ربما كانت لمياء هي التى تربط قدميه إلى سريرها الهاديء الخامل البريء . كان يبدو سعيداً باكتشافاته الجديدة . صار كل شيء فيه يؤكد ذاته بإصرار , إلى حد الصلف . لم يعد شخصاً غامضاً يُخفى نفسه طيلة الوقت , ويرتعش خائفاً من تهكمات وسخريات نعمان . أراهن أنه لديه الآن القدرة الكاملة على لكم وجه نعمان إلى حد تكسير سنتيه البارزتين فى فكه الأعلى .
ونحن عائديْن إلي القاهرة , قالت فاتن إن باسم كان يحب لمياء حباً عميقاً .
يجوز , على الرغم من إننى لست متأكداً أبداً من معنى كلمة " يحب " هذه . أبداً .<hr width="50%" color=#800000 SIZE=1>
تعرفين .. أنا لستُ براوٍ أوحكّاء .الكلمات عدو من أعدائي . الكلمات عدو حقيقي قوى وعنيد . هل أستطيع مثلاً ، أن أقول مثلما يقولون .. "اسمع.. أنا أحبها ، أعشقها ، هل تفهم ؟"
إن الكلمات الأكثر ابتذالاً من قبيل : الحب ، الغرام ، الهوى ، العشق ... ألخ مجرد أصوات تخرج من الحنجرة والأحبال الصوتية واللسان والشفتين . أصوات مبهمة ، قاصرة ، عاجزة ، مكررة ، لا تقول شيئاً ، لا معنى لها ، ولا دلالة ، ولا غاية . أصوات لا شيء . ولكن ماذا يمكنني أن أفعل ، أنا الذى لا أهوى الكتب والقصص للأسباب نفسها ، ولا أجد ضرورة للتعبير بالكلام .
ماذا أفعل إن أردت أن أصف حالي وأنا إلى جوارها،أنظر إليها وأفكر فيها . كأنها ليست إلى جواري تقود السيارة وتتكلم وتضحك وأنا شارد . ما يدور برأسي هو خوفي من البله والحمق والجنون . خوفي من الخوف . خوفي من العجز . عجز يدي عن الامتلاك ، عجزي عمّا يسمونه " الحب " .
كنا ، أنا وهى ممدديْن على ظهرينا . نتقاسم السرير الكبير . بين جسدينا شبر واحد . كنا متعبين ، غافيين بملابسنا وأحذيتنا كما دخلنا . تتردد أنفاسنا بنفس الإيقاع ، شهيق متمهل طويل وزفير بطيء عميق . تمرين اليوجا الوحيد الذى أفلحت فى تعلمه منها . توقفت عن الانتظام فى التمرين قبلها ، وأنا أشعر بلذة نعاس طفولية ، أترقب هذه اللحظة ، لحظة الصوت الذى يأتي ليسكنني ويصعقني كلما رقدت إلى جوارها ، هكذا ، على هذا الحال ، قريباً جدًا من أنفاسها وجلدها ولحمها ، رأسها وصدرها وبطنها وفخذيها وقدميها ، ورائحة جسدها الطبيعية ، رائحة لبن رائب خفيفة ، دافئة ونقية . أتحرك ، أصير مضطجعاً على جنبي الأيسر وأحضنها فى ظلام الغرفة وانغلاق عينيّ فتعطيني صدرها وجسمها . أنزل لأسفل ببطء ليصير رأسي بين مفرق نهديها ، أحس دفء لحمها وطراوته ، الحرارة والنعومة واللين ، أصير كلى خلايا جلدية للمس ، أُرهف عيون أصابعي وأطلقها تأكل نعومة جلدها ، له طعم النبيذ الأبيض . أمكث طويلاً بين نهديها المكتنزين ووجهي مدفون بينهما . ألعقها بشفتىّ ولساني، تقريباً بلا صوت ، حتى أغفو ويداها على ظهري . أغفو رائقاً آمناً ، محمولاً خارج خشونتي وثقلي وبطئي ، بعيداً ، بعيداً عن غلظتى وجلافتى وفحولتي .
إن الكلمات الأكثر ابتذالاً من قبيل : الحب ، الغرام ، الهوى ، العشق ... ألخ مجرد أصوات تخرج من الحنجرة والأحبال الصوتية واللسان والشفتين . أصوات مبهمة ، قاصرة ، عاجزة ، مكررة ، لا تقول شيئاً ، لا معنى لها ، ولا دلالة ، ولا غاية . أصوات لا شيء . ولكن ماذا يمكنني أن أفعل ، أنا الذى لا أهوى الكتب والقصص للأسباب نفسها ، ولا أجد ضرورة للتعبير بالكلام .
ماذا أفعل إن أردت أن أصف حالي وأنا إلى جوارها،أنظر إليها وأفكر فيها . كأنها ليست إلى جواري تقود السيارة وتتكلم وتضحك وأنا شارد . ما يدور برأسي هو خوفي من البله والحمق والجنون . خوفي من الخوف . خوفي من العجز . عجز يدي عن الامتلاك ، عجزي عمّا يسمونه " الحب " .
كنا ، أنا وهى ممدديْن على ظهرينا . نتقاسم السرير الكبير . بين جسدينا شبر واحد . كنا متعبين ، غافيين بملابسنا وأحذيتنا كما دخلنا . تتردد أنفاسنا بنفس الإيقاع ، شهيق متمهل طويل وزفير بطيء عميق . تمرين اليوجا الوحيد الذى أفلحت فى تعلمه منها . توقفت عن الانتظام فى التمرين قبلها ، وأنا أشعر بلذة نعاس طفولية ، أترقب هذه اللحظة ، لحظة الصوت الذى يأتي ليسكنني ويصعقني كلما رقدت إلى جوارها ، هكذا ، على هذا الحال ، قريباً جدًا من أنفاسها وجلدها ولحمها ، رأسها وصدرها وبطنها وفخذيها وقدميها ، ورائحة جسدها الطبيعية ، رائحة لبن رائب خفيفة ، دافئة ونقية . أتحرك ، أصير مضطجعاً على جنبي الأيسر وأحضنها فى ظلام الغرفة وانغلاق عينيّ فتعطيني صدرها وجسمها . أنزل لأسفل ببطء ليصير رأسي بين مفرق نهديها ، أحس دفء لحمها وطراوته ، الحرارة والنعومة واللين ، أصير كلى خلايا جلدية للمس ، أُرهف عيون أصابعي وأطلقها تأكل نعومة جلدها ، له طعم النبيذ الأبيض . أمكث طويلاً بين نهديها المكتنزين ووجهي مدفون بينهما . ألعقها بشفتىّ ولساني، تقريباً بلا صوت ، حتى أغفو ويداها على ظهري . أغفو رائقاً آمناً ، محمولاً خارج خشونتي وثقلي وبطئي ، بعيداً ، بعيداً عن غلظتى وجلافتى وفحولتي .
لا أعرف كم مضى من الوقت . صحوت ، فتحت عينيىّ ونظرت إليها أتأمل وجهها الصافي الرائق فى نعاسه اللذيذ . رأيتُ شعرة طويلة ذهبية ساقطة على كتف بلوزتها البيضاء . شعرة مصبوغة بالحنة . التقطتها بأطراف أصابعي ورحت أفحصها . أخرجت حافظة نقودي الجلدية من جيب بنطلوني الخلفي ، تخيرت جيباً فارغاً فيها ، ولففت الشعرة بحرص ، كنت على وشك حفظها حين فتحت عينيها ونظرت إلى الشعرة بين أصابعي . ابتسمت ولمعت عيناها . تلمع عيناها عندما تبتسم من قلبها. برفق شدت شعرة من رأسها ، انتقتها بعناية ، وقالت وهى تمدها نحوى :
" لا .. خد دي "
كانت شعرة قصيرة سوداء لا أثر للحنة فيها ولا للبياض .
قالت مبتهجة :" دي لسه سوده ، مش محنية ".
وضعتُ الشعرتين الاثنتين معاً ، معاً ، متجاورتيْن فى جيب حافظة نقودي الوحيدة الموضوعة دوماً فى جيب بنطلوني ، كي أُذّكر نفسي ،حين ينتابني السخط لاختياري الغبي لامرأة تقترب من الخمسين ، أذكر نفسي كثيراً، بأنه لا يزال هناك الكثير من الشعر فى رأسها لا يحتاج للحنة والصبغ ، وبأنها صبغت الكثير من الشعر أيضاً ، وبأنهما معاً ، شعرها غير المصبوغ ، وشعرها المصبوغ عزيزان علىّ .
<hr width="50%" color=#800000 SIZE=1>" لا .. خد دي "
كانت شعرة قصيرة سوداء لا أثر للحنة فيها ولا للبياض .
قالت مبتهجة :" دي لسه سوده ، مش محنية ".
وضعتُ الشعرتين الاثنتين معاً ، معاً ، متجاورتيْن فى جيب حافظة نقودي الوحيدة الموضوعة دوماً فى جيب بنطلوني ، كي أُذّكر نفسي ،حين ينتابني السخط لاختياري الغبي لامرأة تقترب من الخمسين ، أذكر نفسي كثيراً، بأنه لا يزال هناك الكثير من الشعر فى رأسها لا يحتاج للحنة والصبغ ، وبأنها صبغت الكثير من الشعر أيضاً ، وبأنهما معاً ، شعرها غير المصبوغ ، وشعرها المصبوغ عزيزان علىّ .
كنت أعرف أنها لن تغفر لي مطلقاً هذا البرود . ربما أنا،وحدي،الذي كنت أحسبه بروداً مخزياً ، ووقحاً .
كانت عاطفتيى القديمة المنسية،والتي عاماً وراء عام كنت أقتطع منها أجزاءً صغيرة وألقيها فى سلة القاذورات المخجلة ، قد تحولت إلى ظمأ جارف لاحتضانها ، مداعبة وجهها بأناملي ، ونحت ملامحها بأصابعي ، تقبيل باطن يديها ، والتربيت على ظهرها كطفل يهدهد أمه . أضع كفىّ على خديها ، أحتويها وأتأملها غير مصدق أنها بين يديّ . أمرر أصابعي على وجهها ببطء شديد ، أسوى شعرها وألفه بين يديّ برقة . أُقبل ناصيتها الصلبة البارزة قليلاً . أضع رأسي على نهديها ، وأغمض عينيّ ، لا أفكر فى شيء، وأغالب دموعي لألاتطفر من عيني أمامها .
كنتُ فرحاً وحزيناً وليس بي رغبة .
أُنكر نفسي ، وما أفعل . هل أنا ممدد فعلاً على صدرها ، ويداها تداعب وجهي وشعري ؟
أخشى أن أضجرها ، وأغضبها . أخشى أن تسخر من بذاءآتى ، وكسلي ، وخمولي...
بعد دقائق طويلة ، قطعت الصمت وقالت بإغواء مكشوف :
" أيه بالظبط اللي مش عاجبك فيّه ؟ "
عز علىّ أن تفكر فى عيبها هي لا عيوبي أنا .كانت رغبتها قد تجمعت فى نظرة عينيها إلى جسدي العاري . لم أستطع أن أخبرها ، وأنا أدفع من رأسي منظر عانتها البيضاء . اتنترت من حجرها ، ووضعت وجهي فى وجهها
" كلك على بعضك عجبانى ".
قبلتُ رأسها وخديها . أستطيع ، ولا أريد الآن . ما آخذه كاف ، بل فادح وكثير وفائض عن حاجتي . وما تحصل عليه هي الآن يصيبها بالإحباط ، والسخط .
قامت . ارتدت بنطلونها الجينز الأزرق ، وبلوزتها البيضاء . تبدو مثل عاملة فى مصنع ملابس . قلت لها ، فضحكت على الرغم من غضبها الذى حاولت إخفاءه بإصرار . أنا أعجبتني اللعبة ، ظللت على السرير عارياً تماماً . المرأة الوحيدة التى لم أخجل من عرىّ أمامها . كنت مرتاحاً هكذا ، مشغولاً بنفسي ، ولا أريدها أن تنصرف الآن . قلت لها إن لاعبي السومو فى اليابان السمينين جداً يتصارعون وهم شبة عراة ، فقط حزام من القماش يستر عوراتهم " هل تلاعبينني ؟ "
قالت محتجة :
" الله .. بس أنا لبست هدومى ".
" بسيطة ، اقلعي ".
" لا .. لا مافيش وقت ".
" وراكى أيه ؟ "
تعلقت بها ، ووضعت يدي حول خصرها . أبعدت يدي بلطف .
" لازم أجيب هاجر من عند صاحبتها ".
لا أعرف ما الذى أغاظني و أثار حنقي عند ذكر ابنتها .
ذهبتُ إلى الحمام ووضعت رأسي تحت تيار الماء المتدفق من الحنفية التى فتحتها إلى آخرها . لم يبترد رأسي ، وظل حنقي مرعباً .
كنت أراقب انفعالاتي جيداً ، تمرين قديم كنت أقوم به أحياناً لالتماس معرفة أعمق بنفسي . أصير شخصيْن ، خاصة فى مثل هذه المواقف التى يدهشني انفعالي فيها ، أدع نفسي أفعل ما أريد تماماً ، أدع نفسي أراني وأنا أفعل ، وأنا أغضب وأحنق وأنفجر ثم أبحث عما جعلني أكون على هذا النحو .. حالة قلقة متوترة تصيبني بالإرهاق الشديد . طيلة الوقت لا أستطيع أن أكون على راحتي ، على سجيتي ، على طبيعتي ، هذا هو السؤال ! عن أي طبيعة أتحدث ؟
عدتُ إلى غرفة النوم . لم أجدها . كان السرير في فوضاه المعتادة ، والمخدات متناثرة على الأرض ، الملاءة مكرمشة تظهر تحتها نتف القطن من قطع صغير فى المرتبة .
بعد ثلاث ساعات عادت فاتن وقد غيرت ملابسها ، وارتدت فستان بنفسجي بزهور وردية صغيرة يعلو ركبتيها قليلاً ، وجوارب شيفون سوداء ، بدت امرأة ناضجة تخطت الثلاثين ذات حضور أنثوي متوهج ورزين .
كنت أعد العشاء . أحياناً أحب طبخ صينية بطاطس بالفراخ . جلسنا نأكل . جلست إلى جواري ، ترددت قليلاً وهى تلتقط قطعة لحم ، ثم وضعتها فى فمي ، أكلتها . صارت لا تأكل ، وتطعمني بيدها ، وتلاعبني وتضحك .
" هم .. هم هم يا جمل ".
والجمل كان يخبط الأرض بقدمه ، ويأكل ، ويضحك من أعماق قلبه .
" تانى تانى ".
" هَمْ.. هَمْ يا جمل ".
لم أكن أريد أن أنتهى من الأكل بهذه الطريقة بسرعة . أكلت كثيراً جداً ، وامتلأتُ بلذة كسولة . أسلط بصرى عليها وهى تمضى إلى المطبخ، تتحرك بألفة وتلقائية كأنها كانت هنا معي منذ سنوات طويلة . أحس أنها امرأتي، امرأتي . إنها هنا لأن هذا عادى وطبيعي جداً ، إنها فى المكان الذى يجب أن تكون فيه ، غيابها هو العارض ، والمؤقت . كانت هنا معي ، وستبقى .
أنتظرها أن تأتى . أن تضع يدها على شعري وتبتسم وتروح تحكى عما حدث فى الثلاث ساعات التى تركتني فيها . حينما جاءت من المطبخ فعلت . وضعت يدها على شعري ، فأجلستها فى حجري ، وراحت تحكى . أحب طريقتها فى الكلام ، نبرة السخرية شبة الدائمة والتوقفات المفاجئة ، كأنها تفكر بعد أن تتكلم لا قبل الجملة التى تلفظها بعفوية ورعونة . أطرب حين تنطق اسمي ، وهى تذكره كل جملتين ، كأنما لتذكرني بأنها هي أيضاً تحب أن أذكر اسمها كثيراً ، أتملص من ذلك ، أريد أن أسمعها أطول وقت ممكن ، لا أريد أن أذهب بها إلى ... ، فأخذتها إلى حيث أرويها وأشبعها ، وأزيل عنها صدأ سنوات بائسة طويلة .
أضاجعها مرة . ومرة أخرى ، وثالثة ، ورابعة ، حتى إذا خرجت إلى الشارع سرت ، وأنا أترنح قليلاً مسطولاً ومنتشيًا . ركبتاي تصطكان الواحدة بالأخرى ، ورأسي فارغ من كل شيء . هادىء وبطيء أسير فى الشوارع بلا هدف ، بوجه رائق مثل وجوه الأطفال والملائكة ، نفسي ممتلئة .. بل تفيض وجسدي خفيف ، مروى ، شبعان ، ولا أحد يعرف سر فرحى .
<hr width="50%" color=#800000 SIZE=1>كانت عاطفتيى القديمة المنسية،والتي عاماً وراء عام كنت أقتطع منها أجزاءً صغيرة وألقيها فى سلة القاذورات المخجلة ، قد تحولت إلى ظمأ جارف لاحتضانها ، مداعبة وجهها بأناملي ، ونحت ملامحها بأصابعي ، تقبيل باطن يديها ، والتربيت على ظهرها كطفل يهدهد أمه . أضع كفىّ على خديها ، أحتويها وأتأملها غير مصدق أنها بين يديّ . أمرر أصابعي على وجهها ببطء شديد ، أسوى شعرها وألفه بين يديّ برقة . أُقبل ناصيتها الصلبة البارزة قليلاً . أضع رأسي على نهديها ، وأغمض عينيّ ، لا أفكر فى شيء، وأغالب دموعي لألاتطفر من عيني أمامها .
كنتُ فرحاً وحزيناً وليس بي رغبة .
أُنكر نفسي ، وما أفعل . هل أنا ممدد فعلاً على صدرها ، ويداها تداعب وجهي وشعري ؟
أخشى أن أضجرها ، وأغضبها . أخشى أن تسخر من بذاءآتى ، وكسلي ، وخمولي...
بعد دقائق طويلة ، قطعت الصمت وقالت بإغواء مكشوف :
" أيه بالظبط اللي مش عاجبك فيّه ؟ "
عز علىّ أن تفكر فى عيبها هي لا عيوبي أنا .كانت رغبتها قد تجمعت فى نظرة عينيها إلى جسدي العاري . لم أستطع أن أخبرها ، وأنا أدفع من رأسي منظر عانتها البيضاء . اتنترت من حجرها ، ووضعت وجهي فى وجهها
" كلك على بعضك عجبانى ".
قبلتُ رأسها وخديها . أستطيع ، ولا أريد الآن . ما آخذه كاف ، بل فادح وكثير وفائض عن حاجتي . وما تحصل عليه هي الآن يصيبها بالإحباط ، والسخط .
قامت . ارتدت بنطلونها الجينز الأزرق ، وبلوزتها البيضاء . تبدو مثل عاملة فى مصنع ملابس . قلت لها ، فضحكت على الرغم من غضبها الذى حاولت إخفاءه بإصرار . أنا أعجبتني اللعبة ، ظللت على السرير عارياً تماماً . المرأة الوحيدة التى لم أخجل من عرىّ أمامها . كنت مرتاحاً هكذا ، مشغولاً بنفسي ، ولا أريدها أن تنصرف الآن . قلت لها إن لاعبي السومو فى اليابان السمينين جداً يتصارعون وهم شبة عراة ، فقط حزام من القماش يستر عوراتهم " هل تلاعبينني ؟ "
قالت محتجة :
" الله .. بس أنا لبست هدومى ".
" بسيطة ، اقلعي ".
" لا .. لا مافيش وقت ".
" وراكى أيه ؟ "
تعلقت بها ، ووضعت يدي حول خصرها . أبعدت يدي بلطف .
" لازم أجيب هاجر من عند صاحبتها ".
لا أعرف ما الذى أغاظني و أثار حنقي عند ذكر ابنتها .
ذهبتُ إلى الحمام ووضعت رأسي تحت تيار الماء المتدفق من الحنفية التى فتحتها إلى آخرها . لم يبترد رأسي ، وظل حنقي مرعباً .
كنت أراقب انفعالاتي جيداً ، تمرين قديم كنت أقوم به أحياناً لالتماس معرفة أعمق بنفسي . أصير شخصيْن ، خاصة فى مثل هذه المواقف التى يدهشني انفعالي فيها ، أدع نفسي أفعل ما أريد تماماً ، أدع نفسي أراني وأنا أفعل ، وأنا أغضب وأحنق وأنفجر ثم أبحث عما جعلني أكون على هذا النحو .. حالة قلقة متوترة تصيبني بالإرهاق الشديد . طيلة الوقت لا أستطيع أن أكون على راحتي ، على سجيتي ، على طبيعتي ، هذا هو السؤال ! عن أي طبيعة أتحدث ؟
عدتُ إلى غرفة النوم . لم أجدها . كان السرير في فوضاه المعتادة ، والمخدات متناثرة على الأرض ، الملاءة مكرمشة تظهر تحتها نتف القطن من قطع صغير فى المرتبة .
بعد ثلاث ساعات عادت فاتن وقد غيرت ملابسها ، وارتدت فستان بنفسجي بزهور وردية صغيرة يعلو ركبتيها قليلاً ، وجوارب شيفون سوداء ، بدت امرأة ناضجة تخطت الثلاثين ذات حضور أنثوي متوهج ورزين .
كنت أعد العشاء . أحياناً أحب طبخ صينية بطاطس بالفراخ . جلسنا نأكل . جلست إلى جواري ، ترددت قليلاً وهى تلتقط قطعة لحم ، ثم وضعتها فى فمي ، أكلتها . صارت لا تأكل ، وتطعمني بيدها ، وتلاعبني وتضحك .
" هم .. هم هم يا جمل ".
والجمل كان يخبط الأرض بقدمه ، ويأكل ، ويضحك من أعماق قلبه .
" تانى تانى ".
" هَمْ.. هَمْ يا جمل ".
لم أكن أريد أن أنتهى من الأكل بهذه الطريقة بسرعة . أكلت كثيراً جداً ، وامتلأتُ بلذة كسولة . أسلط بصرى عليها وهى تمضى إلى المطبخ، تتحرك بألفة وتلقائية كأنها كانت هنا معي منذ سنوات طويلة . أحس أنها امرأتي، امرأتي . إنها هنا لأن هذا عادى وطبيعي جداً ، إنها فى المكان الذى يجب أن تكون فيه ، غيابها هو العارض ، والمؤقت . كانت هنا معي ، وستبقى .
أنتظرها أن تأتى . أن تضع يدها على شعري وتبتسم وتروح تحكى عما حدث فى الثلاث ساعات التى تركتني فيها . حينما جاءت من المطبخ فعلت . وضعت يدها على شعري ، فأجلستها فى حجري ، وراحت تحكى . أحب طريقتها فى الكلام ، نبرة السخرية شبة الدائمة والتوقفات المفاجئة ، كأنها تفكر بعد أن تتكلم لا قبل الجملة التى تلفظها بعفوية ورعونة . أطرب حين تنطق اسمي ، وهى تذكره كل جملتين ، كأنما لتذكرني بأنها هي أيضاً تحب أن أذكر اسمها كثيراً ، أتملص من ذلك ، أريد أن أسمعها أطول وقت ممكن ، لا أريد أن أذهب بها إلى ... ، فأخذتها إلى حيث أرويها وأشبعها ، وأزيل عنها صدأ سنوات بائسة طويلة .
أضاجعها مرة . ومرة أخرى ، وثالثة ، ورابعة ، حتى إذا خرجت إلى الشارع سرت ، وأنا أترنح قليلاً مسطولاً ومنتشيًا . ركبتاي تصطكان الواحدة بالأخرى ، ورأسي فارغ من كل شيء . هادىء وبطيء أسير فى الشوارع بلا هدف ، بوجه رائق مثل وجوه الأطفال والملائكة ، نفسي ممتلئة .. بل تفيض وجسدي خفيف ، مروى ، شبعان ، ولا أحد يعرف سر فرحى .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى